يصف سكان قرية سبسطية، الواقعة شمال غرب نابلس، ما جرى خلال الأسبوع الأخير بأنه الأخطر منذ بدء محاولات فرض السيطرة على الموقع الأثري في المنطقة عام 2022. فصباح أمس الثلاثاء، اقتحمت قوات عسكرية إسرائيلية القرية، برفقة ضباط من “الإدارة المدنية” وخبراء آثار، ودخلت إلى مواقع تُعدّ في صميم الهوية التاريخية والمجتمعية للبلدة، من بينها محيط مسجد النبي يحيى، ومنطقة قبر يوحنا المعمدان، ونقاط الدخول إلى المسار الأثري الممتد بين البيوت الحجرية القديمة والمنحدرات الرومانية.

وتقع هذه المناطق ضمن أراضٍ مصنفة “B”، أي خاضعة للمسؤولية المدنية الفلسطينية. وخلال الاقتحام، نفذت القوات عمليات قياس دقيقة للمداخل والمخارج، ووثّقت المسارات وقيّمت المباني والتضاريس، في مشهد يشير بوضوح إلى بدء عملية مسح بنيوي تمهيدية للبنية التحتية.

وجاء هذا التطور بعد إعلان رسمي عن مصادرة نحو 1800 دونم من الأراضي المتصلة بين قريتي سبسطية وبرقة، تشمل 570 قطعة أرض، ومئات أشجار الزيتون المعمّرة، وبنى تحتية سياحية، ومنازل تاريخية تقع بمحاذاة الموقع الأثري. وقدّمت المجلس المحلي في سبسطية التماسًا إلى المحكمة العليا، إلا أن رئيس المجلس، محمد عازم، وصف الخطوة بأنها “إجراء شكلي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”، مضيفًا: “القاضي والجلاد هما المنظومة ذاتها”.

وقال عازم في تصريحات لوسائل إعلام فلسطينية عقب الاقتحام: “منذ بدء الزيارات المنظمة التي ينفذها المستوطنون إلى الموقع الأثري، برفقة الجيش، أُغلِق أكثر من تسعة مشاريع سياحية، من مطاعم، وبيوت ضيافة، ومراكز استقبال للزوار. هذا الموقع كان شريان الحياة للبلدة. ومع شلله، انقطع أيضًا مصدر الدخل المباشر للمجلس المحلي، وتوقفت زيارات الطلاب والوفود. ما يحدث يذكّرنا بما جرى في الخليل: يبدأ الأمر بزيارات منظمة، ثم حواجز تقنية، وفي النهاية يُنشأ موقع رسمي مغلق يُنتزع من مجتمعه”.

بالتوازي، كُشف  الأسبوع الماضي عن خطة خماسية ضخمة للاستثمار في المستوطنات، يقودها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بميزانية تُقدّر بـ2.7 مليار شيكل. وتشمل الخطة، بحسب التقارير، نقل قواعد عسكرية إلى شمال الضفة الغربية، وشق طرق التفافية جديدة، وبناء مراكز زوار وبنى تحتية مرافقة. ويُعدّ نقل مقر فرقة “منشيه” العسكرية إلى منطقة قريبة من موقع سبسطية أبرز هذه الخطوات، ما يعزز القناعة بأن ما يجري ليس حدثًا محليًا عابرًا، بل جزء من مشروع معلن لإعادة تشكيل شمال الضفة.

في السياق ذاته، يواصل الجيش الترويج لحملة رقمية واسعة بعنوان “في دروب يهودا”، عبر مجموعات واتساب وتلغرام ومنصات التواصل، تدعو جنودًا ومواطنين لزيارة مواقع مختلفة في الضفة، تشمل مواقع دينية وأثرية، وبؤرًا استيطانية غير قانونية، وينابيع صودرت من الفلسطينيين، وقرى فلسطينية تحتوي على بقايا أو مبانٍ ذات “أهمية تاريخية” وفق الرواية الإسرائيلية.

وتربط المواد الدعائية بين هذه المواقع وقصص توراتية، وتعرض أيضًا مزارع وبؤرًا استيطانية أُقيمت على أراضٍ خاصة، إلى جانب إعلانات لأعمال تجارية محلية يظهر فيها ضباط وجنود وناشطون سياسيون يروّجون لرسائل أيديولوجية. ويبدو واضحًا أن الهدف يتجاوز السياحة، إلى ترسيخ سردية تاريخية تبرر الوجود العسكري والسيطرة المكانية.

على الأرض، تعيش سبسطية حالة شلل شبه كامل. المتاجر السياحية مغلقة منذ أسابيع، الحركة التجارية متوقفة تقريبًا، والعديد من السكان عاجزون عن الوصول إلى أراضيهم الزراعية. البلدة، التي اعتمدت سابقًا على تدفق الزوار الفلسطينيين واقتصاد محلي محدود، تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا يمسّ حاضرها ومستقبلها.

وترى الدكتورة منى أبو حمدية، عالمة الآثار الفلسطينية، أن ما يجري في سبسطية يهدف إلى قطع العلاقة بين السكان ومكانهم. وتوضح أن سبسطية مدينة مأهولة منذ أكثر من خمسة آلاف عام، تعاقبت عليها حضارات كنعانية وفينيقية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، دون أن يُعثر في أي مرحلة على دليل أثري واحد يدعم الروايات التوراتية المنسوبة للموقع. وتؤكد أن جميع بعثات التنقيب الدولية، بما فيها بعثة جامعة هارفارد (1908–1910)، توصلت إلى النتيجة نفسها.

وتضيف أبو حمدية أن محاولات “إعادة تفسير” المكتشفات لأهداف سياسية لم تحظَ بقبول علمي دولي، مشددة على أن “عندما تتحول الحفريات إلى أداة مصادرة لا بحث، فنحن لا نتحدث عن علم آثار، بل عن هندسة هوية بالقوة”.

من جهته، يقول المؤرخ والآثاري الدكتور توفيق دعادلة إن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت هناك “آثار يهودية” في سبسطية، بل إن كل طبقة تاريخية هي جزء من إرث متواصل، ولا يمكن اقتطاع موقع كامل من سكانه استنادًا إلى فصل واحد من تاريخه. ويؤكد أن سبسطية ليست موقعًا مهجورًا، بل فضاء حيًّا يتداخل فيه الماضي مع الحاضر.

ويحذر دعادلة من أن تحويل سبسطية إلى مجمّع مسوّر ومؤمّن يفصلها عن محيطها الإنساني، ويغيّر جوهرها من موقع أثري حيّ إلى أداة سيادة سياسية، يمثل انحرافًا خطيرًا عن جوهر علم الآثار.

وتختتم أبو حمدية بالدعوة إلى تدخل دولي عاجل، معتبرة أن الاكتفاء ببيانات الشجب لا يكفي، وأن سبسطية، بما تمثله من قيمة تاريخية وثقافية فلسطينية، تواجه خطرًا حقيقيًا ومباشرًا يهدد بطمس ذاكرتها ووجودها.

التقرير نشر بالعبرية في سيحا مكوميت - (لوكال كول)

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com