بقلم: رانية مرجية

لم يكن الفراق بينهما لحظة، بل زلزالًا ممتدًا في الزمن.

يوم غادرها على رصيف المحطة، كان القطار أهون من أن يحمل وجعهما، ومع ذلك ترك لها صمته كوصيّة.

منذ تلك اللحظة، كل صفير قطار صار صرخة في قلبها، وكل نافذة تفتحها الريح كانت تذكّرها بأن العالم لا يتوقف ليجبر قلوب العاشقين.


مرت السنوات كأنها جثث زمنية، باردة بلا حياة.

كانت تكتب له رسائل لا تُرسل، وتضعها تحت وسادتها.

تقرأ صوته بين سطورها، وتعيد صياغة تفاصيله حتى لا يذوب من ذاكرتها.


لكن الحرب جاءت كقاضٍ لا يعرف الرحمة.

مدينتهم التي كانت تكتب فيها على الجدران عبارات حب، صارت الآن جدرانها تكتب بدم الأبرياء.

القذائف كانت تعيد صياغة التاريخ بلغة النار.

وفي كل سقوط لصاروخ، كانت تشعر أن قلبها ينقسم قسمين: نصف يعيش على الحنين، ونصف يموت بالذعر.



ذات مساء دموي، خرجت تبحث عن خبز وعن بعض ماء.

على الرصيف ذاته الذي تركها فيه، وجدت جثثًا تتكدّس.

عينها وقعت على وجه مألوف.

اقتربت، قلبها كان يسبقها بخطوات، يدها ارتجفت وهي تزيح الغبار عن ملامحه.

إنه هو… وجهه ذاته، كأنه لم يغب عنها لحظة.



صرخت باسمه. تحرّك. فتح عينيه، لكنه كان غريبًا.

نظر إليها وكأنها دخيلة على مشهده الأخير.

قال بصوت مشروخ:

– “من أنتِ؟”


سقطت كل سنوات الانتظار في تلك اللحظة كما يسقط تمثال من حجر.

أدركت أن الفراق الأكبر ليس الموت،

ولا أن تبتلعك حرب،

بل أن تعيش بجسدك ويموت داخلك كل ما يربطك بمن تحب.



ابتسمت بمرارة، مسحت عن جبينه الدم، وهمست:

– “أنا… التي كنتُ أحبك يومًا، وأنتَ لم تعد.”



ثم مشت بين الركام، بينما خلفها الحرب كانت تلتهم أصوات الناجين،

وهي تفكّر أن أعظم مأساة للإنسان ليست أن يفقد الآخرين،

بل أن يفقد الآخرون القدرة على تذكّره.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com