تنوّعت تعريفات الفقهاء لمعنى الإفلاس، ويمكن القول بعد التدقيق في تعريفات الفقهاء إنّ الإفلاس يعني حالة يصل إليها المدين بحيث لا يستطيع معها الوفاء بما عليه من ديون حالّة ولازمة. وأشار فقهاء الحنفية إلى أنّه حكم يصدر عن القاضي بتفليس الشخص الذي يكون عليه دين يستغرق كل أمواله، أو يزيد على أمواله. وفقهاء الشافعية أشاروا إلى هذا المعنى بقولهم: جعل القاضي المَدين مفلسًا بمنعه التصرّف في أمواله لتعلّق الدين به. والحنابلة قالوا: إنّ الإفلاس خروج الإنسان من ماله، والمفلسُ مَن دَينُه أكثر من ماله، وخرجه أكثر من دخله. والمالكية قالوا يُطلق الإفلاس على معنيين: الأول: أن يستغرق الدين مال المدين، فلا يكون في ماله وفاء بديونه، والثاني: ألا يكون له مال معلوم أصلًا. وعليه، فالمفلس في ظلّ هذه التعريفات يُطلق على من لا مال له أصلًا، كما يُطلق على من لا يفي ماله بدينه، أو من يزيد دينه على موجوده من المال. إذًا المفلس هو من في ضيق الحال من جهة عدم المال.
وهنا ننظر في مسألة فرعية هامة، وهي إذا كان الإفلاس وعدم القدرة على سداد الديون نتيجة الحروب أو الجوائح، بحيث يكون الإفلاس من غير سوء إدارة أو إهمال أو تقصير، بل لسبب خارج عن المفلس كالحرب أو الجائحة، وأصبح المفلس مدينًا لكثير من الناس، ولم يستطع السداد، ففي صورة هذه المسألة: فإن كان له مال تم السداد منه، وما بقي من الديون وفق صورة المسألة هذه لا يُطالَب بها المدين المفلس، ولا ينبغي أن يلجأ إلى السوق السوداء للاستدانة وتوريطه في ربا لا نهاية له وتهديد ربما ينتهي بقتله أو قتل أحد أفراد عائلته، وفق ما يجري في واقعنا اليوم.
وما رُوي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال:
“أُصيبَ رجلٌ في عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في ثِمارٍ ابتاعَها، فَكَثُرَ دَينُهُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: تصدَّقوا عليه، فتصدَّقَ النَّاسُ عليه، فلم يبلُغْ ذلك وفاءَ دَينِهِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: خُذوا ما وجَدتُمْ، وليسَ لَكُم إلَّا ذلك” رواه مسلم.
وفي هذا الحديث يُخبر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رجلًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت ثماره آفة أدّت إلى إتلاف ثماره التي اشتراها ولم يدفع ثمنها، فازدادت عليه الديون بسبب ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يتصدّقوا عليه؛ حتى يتمكّن من سداد الدين الذي عليه، فاستجاب الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدّقوا عليه، فلم يستوفِ ما جمعه من الناس مجموع دينه لكثرته، وبقي عليه جزء منه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغُرماء -وهم أصحاب الدين- أن يأخذوا ما وجدوا عنده مما بقي وينتفع به من الثمار، وما حصل عليه من الصدقة، وقوله: "وليس لكم إلا ذلك"، أي: ليس لكم طلب ما بقي لكم من دينٍ وما عجز عن وفائه، وقيل: ليس لكم إلا ذلك لإفلاسه الآن.
وفي الحديث: أنّ المفلس يُؤخذ ما بقي عنده بقيمته، ولا يُحبس ولا يُزجَر، ولكن يُنظَر إلى مَيسرة، ثم يَردّ ديونه لأهلها.
فلا ينبغي لمن أُفلس نتيجة الحرب التوجّه إلى السوق السوداء نتيجة ضغط الدائنين، بل يُنظَر إلى ميسرة أو العفو، فليس للدائن شرعًا إلا ذلك. ولا يجوز للدائن أن يُرهق المفلس في صورة المسألة المذكورة بالمطالبة في الدين، بل يبحث عن مخارج أخرى إن كان هو الآخر في حالة اضطرار.
الشيخ رائد بدير
رئيس دار الإفتاء والبحوث الإسلامية48
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق