كتبت: رانية مرجية
منذ نعومة خيالي، وأنا أسمع عن “التعايش السلمي بين العرب واليهود”… في المؤتمرات، في الندوات، على شاشات التلفاز، وحتى في صالونات الحلاقة النسائية. يتحدثون عن “نسيج اجتماعي مشترك”، عن “العيش جنبًا إلى جنب”، وعن “السلام ممكن”، بينما أنا – رانية بنت الرملة – أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا… إلا طحن الحمص.
نعم، اسمحوا لي أن أُشهِد اليوم الحمص، وأشهد الفول، وأستدعي الفلافل والطرشي والبيض المسلوق، لأقول لكم: التعايش الوحيد الحقيقي الذي يشهده هذا الشرق الساحر هو ذاك الذي يجري كل صباح على طاولة الإفطار في مطاعم مختلطة في يافا أو عكا، حيث يجلس العربي واليهودي جنبًا إلى جنب، ويختلفان على قرص فلافل، لا على القدس.
التعايش في شارع الشَّنينّة
أخبرتني جارتي أم إلياس ذات يوم، وهي ترفع كيس الفول من “محمصة أبو خميس” في اللد: “أنا لا أمانع اليهود، بشرط أن لا يلمسوا الحمص!”. فقلت لها ساخرة: “وأين المشكلة، يا أم إلياس؟ ألم يقولوا لنا أن الحمص يوحّد الشعوب؟”. أجابتني بجديّة غريبة: “الحمص مشكلته أنه صار قوميًا، كل طرف يدّعي أنه مخترعه!”.
وبالفعل، في متحف “إسرائيل” بالقدس، هناك قسم صغير مخصص لـ “مطبخ الأرض المقدسة”، وكُتب هناك أن الحمص طعام يهودي توراتي. فأرسلتُ لهم بريدًا إلكترونيًا بعنوان: “يا قوم، أفيقوا! إن الحمص ولد في نابلس، وشبّ في غزة، ودرس في حيفا!”. لم يردّوا.
عنصرية بطعم الطحينة
منذ سنوات، عمل صديقي بشارة في مطعم إسرائيلي راقٍ بتل أبيب، يُقدم أطباق “الشرق الأوسط الجديد” – وهو تعبير ناعم عن السرقة المنظمة للمطبخ العربي. بشارة كان يهرس الحمص بيديه كأنّه يصنع التاريخ. جاء أحد الزبائن، تذوّق، ثم صرخ: “هذا الحمص عربي الطعم! أعيدوه!” وكأن الحمص أصبح حاملًا للجينات السياسية.
فأجاب صاحب المطعم بدهاء “أهبل لكن غني”: “نحن نُهَرّس الحمص على الطريقة اليهودية الشرقية، بنكهة التعايش.” يا سلام!
فقط على المائدة نتصالح!
التعايش – يا سادة – حاصل فقط في المطبخ. العربي يُحضّر الحمص، واليهودي يأكله، ثم يدّعي أنه اخترعه. نلتقي في السوق فنصرخ على سعر البندورة، ونختلف في السياسة، لكننا ننسجم على طاولة الفول. وربما لهذا السبب باتت المطاعم هي المكان الوحيد الذي لا يُقصف في غزة أو يُغلق في الناصرة.
أما في المدارس؟ فالعربي “مشكوك بأمره”، واليهودي “مرشح لجائزة نوبل منذ الطفولة”. في الجامعات؟ العربي في قسم “دراسات الهوية”، واليهودي في لجنة القبول. في الانتخابات؟ العربي في طابور طويل ينتظر أن يُقبل، واليهودي يصوّت لليمين المتطرف ليضمن استمرار التعايش – بطريقته.
أين نعيش معًا؟ في البطن لا في الوطن.
التعايش إذًا هو طبق فول نأكله بصمت كل صباح، وربما لهذا السبب قررت أن أفتح مطعمًا وأسميه “حلم العودة”، وسأضع في القائمة طبقًا باسم “فلافل أوسلو”، وآخر باسم “شاكشوكة التطبيع”، وسأقدّم “مخلل الانتفاضة” مجانًا لكل من يُظهر بطاقة هوية فلسطينية.
لا تنتظروا مؤتمر سلام آخر، بل افتحوا مطبخًا صغيرًا، وحطوا الطاولة، وادعوا الطرفين… وراقبوا كيف يتحول الجدل حول الاحتلال إلى جدل حول من سرق آخر قطعة مخلل.
الخاتمة؟ بسيطة:
أنا لا أكره اليهود، ولا أحب العنصرية. أنا أؤمن أن العدالة أطيب من الحمص، وأن كرامتنا لا تُقاس بكم قطعة فلافل قُدّمت لنا، بل بمدى حريتنا في طبخ التاريخ من دون أن يُحرّف في مطبخ الآخر.
وإلى أن يتحقق السلام الحقيقي، سأكتفي بتعايشنا على صحن حمص، وأشهده – شهادة حقيقية – أنه كان دافئًا، ناعمًا، صادقًا، أكثر من ألف اتفاقية وأوسلو
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق