في لحظة مشحونة بالتوتر المجتمعي التقينا – نحن مجموعة من الأخصائيين الاجتماعيين والمهنين العرب الفلسطينيين من مختلف المناطق في البلاد، من الشمال وحتى الجنوب – ضمن لقاء جديد لمنتدى المجتمع العربي في "شبكة خطوط حمراء". اجتمعنا في عرعرة المثلث، في مبنى مميز يحمل قصة من تاريخ المنطقة وقد رمم مؤخرا ليصبح اليوم مركزً "حاسوب".
لقد جمعتنا الحاجة في البحث بإسقاطات الحرب والجريمة المنظمة في مجتمعنا على العائلة العربية الفلسطينية في إسرائيل وبالتالي على تفاقم العنف بداخلها. التقينا وكل منا يحمل بجعبته مشاعر، افكار وتجارب من قلب الميدان، عبرنا من خلالها عن مشاعر القلق، العجز، الوحدة والحاجة الكبيرة بالمشاركة، وبالمقابل عن الاصرار والإيمان بحق مجتمعنا وعائلاتنا بداخله بحياة كريمة مستقرة، بعيده عن الخوف، التهميش والتهديد بأمنها واستقرارها.
أظهر اللقاء مدى تعطشنا لفضاء مهني آمن يُسمح فيه بإسماع أصواتنا المختلفة والمتشابهة، دون قمع أو إسكات. فنحن بمعظمنا من يرافق، يصغي ويدعم الأفراد والعائلات القاطنون في ضائقة، ويتجاهل في أحيان كثيرة ما يحمله هو نفسه من ضيق وتعب. نحن وزملائنا بالمهنة جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع ونواجه ما يواجهه في ظل الحرب والاجرام المنظم، ويوجد بيننا من هو مهدد على خلفية دوره المهني بخطر تلك الظواهر، أو من يتصدى بنفسه ظروف عمل خانقة داخل المؤسسات التي يشغل بها. رغم ذلك، اتفقنا على كوننا مجموعة من "وكلاء التغيير" المستندة على الحصانة المهنية الغنية بالمعرفة وباليات العمل التي تدعونا الى التجدد والابداع في مواجهة التحديات المهنية في الظروف الراهنة، فان كنا نحن من يستسلم للعجز فعلى الدنيا السلام!!!
ناقشنا بعمق تأثير الحرب والجريمة المنظمة على تفاقم التوتر والضغط لدى العائلات العربية، وبالتالي على تصعيد العنف بداخلها. تم عرض مضامين ومعطيات تعكس صورة مركبة لظروف العائلات والتي تعقدت بشكل ملحوظ بالسنوات الأخيرة. هذه صورة مرتبطة بالسياقات الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية الواقعة على العائلات والتي تتطلب منا إعادة النظر في تدخلاتنا المهنية.
لقد تم التطرق الى حالة التيه الثقافي التي تعيشها العائلة العربية: تفكك منظومة العائلة التقليدية، الصراع بين القيم التقليدية والليبرالية الذي ينعكس في العلاقات الزوجية والوالدية, هيمنة النزعة الاستهلاكية، تغوّل الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي وبالتالي تضاؤل دور الأهل وجودة العلاقات الاسرية. هذه الأزمة، ليست معزولة عن السياق السياسي والاقتصادي؛ إذ تعاني العائلات العربية من سياسات تمييز بنيوي ممنهج منذ عقود، وقد تفاقمت بالسنوات الأخيرة في ظل الحرب على غزة- الى التقليص بالميزانيات، نقص حاد في البنية التحتية، غياب مناطق صناعية، قلة البرامج التربوية والتأهيلية، وواقع اقتصادي يعيش فيه أكثر من نصف العائلات تحت خط الفقر.
في اللقاء تم تسليط الضوء أيضا على شريحة الشباب التي تشكل 50% من المجتمع، فمعظمهم خارج دائرة التعليم والعمل، ما يجعل منهم فريسة سهلة لشبكات الجريمة والعنف في ظل غياب هيبة الاهل وانعدام النظام وردع القانون. لقد تطرقنا الى الأرقام المتصاعدة لحالات القتل والقصص المفزعة داخل مجتمعنا التي طالت أيضا النساء والأطفال، هذه الظاهرة التي باتت تنهش بمجتمعنا وتهدمه من الداخل.
بقدر ما كشف اللقاء من هشاشة الواقع، بقدر ما أظهر قوة المبادرة وروح العمل الجماعي بين المهنيين. كان واضحًا التزام المشاركين بموقعهم كخط دفاع أول أمام تفشي العنف، ليس فقط من خلال العلاج، بل عبر بناء نماذج وقائية، وطرح بدائل مهنية تستند إلى المعرفة والتمكين الجماعي. رغم التحديات، دعا اللقاء للتماسك والالتفاف حول رؤية مشتركة، وتعزيزها من خلال الحفاظ على استمرارية لقاءات المنتدى، وتوسيع دائرة المشاركين من قطاعات المجتمع المختلفة – تربوية، اجتماعية، دينية، وحقوقية – وأيضا توثيق المبادرات الأخرى التي تُبذل على الأرض، بهدف التشبيك وبناء جبهة مجتمعية مهنية متماسكة.
الطريق أمامنا طويل ومثقل بالتحديات، لكنه ضروري. اللقاء الأخير، برغم قسوته في مضمونه، كان نقطة ضوء تؤكد أهمية المهنية كفعل مقاومة اجتماعية. لا بد من المضي قدمًا، ولو بخطوات بطيئة، نحو بناء مناعة اجتماعية جديدة ترتكز على الحق في الأمان والازدهار الأسري والمجتمعي.
علينا أن نواصل بناء الشراكات مع العائلات، مع الأفراد، مع زملائنا المهنيين، وأن نُعيد صياغة السؤال: كيف نحمي عائلاتنا ليس فقط من العنف، بل من الإهمال والتهميش؟ كيف نجعل من المهنة صوتًا لا يُسكت، ومن اللقاء أداة للربط والمواجهة والتغيير؟
لأن مجتمعنا، رغم الألم، يستحق الحياة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com